لماذا على تركيا خوض غمار المستنقع العربي؟

لماذا على تركيا خوض غمار المستنقع العربي؟

محمد عابد

مساعد باحث

قامت الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر على أنقاض الدولة السلجوقية في الأناضول، والتي كانت تعرف بأنها خط الموجهة مع “الروم” بالنسبة للعالم الإسلامي، وبالرغم من إثبات السلاجقة جدارتهم في ذلك فإنهم لم يسعوا نحو حيازة الخلافة، فما سيترتب على ذلك المسعى من غرق في المستنقع العربي المضطرب منذ ضعف الدولة العباسية سيوقف مد السلاجقة الحضاري ويعرقل من تقدمهم في مهمتهم “الشريفة” في جهاد الروم والسعي نحو “القسطنطينية”.

وبعد أن ورث العثمانيون الدولة السلجوقية، وبعد أن استتب لهم الأمر في الأناضول وفتحوا القسطنطينية وتقدموا في البلقان، يبدو أنهم أدركوا الحاجة الاستراتيجية إلى حديقة خلفية وظهر مستقر إلى جانب الشرف الديني_ الذي سيضع مفاتيح خزان المسلمين البشري في أيديهم_ قبل المضي إلى الأمام، فهم لم يريدوا نهاية كنهاية السلاجقة، خصوصاً وأنهم قد أصبحوا في مواجهة مفتوحة مع كل أوروبا إضافة إلى تعاظم أمر الصفويين من الخلف.

إلا أنهم بالرغم من ذلك فقد استمروا في سياسة تقديم المضي إلى الأمام على توضيب الأمور في العالم العربي، فهو عالم كان قد وصل درجة من التخلف والتشرذم والبداوة يصعب معها محاولة التدارك، خصوصاً في الجزيرة العربية، حيث كانت في كل قرية أو بضع قرى أميرٌ وإمارة تعلن الحرب على جيرانها لأتفه الأسباب! أو ربما لم يعرف العثمانيون كيف يتعاملون مع ذلك العالم دون الغرق في تفاصيله والانشغال به عن تثبيت أقدامهم في ما اكتسبوه في الجبهات الأمامية.

بعيداً عن الخوض في تقييم تلك السياسات، إلا أن “البلقان” التي أمضت الدولة العثمانية قروناً في فتوحاتها ومحاولات تتريكها وأسلمتها، والتي شكلت حربتها التي تطعن بها قلب أوروبا في سعيها نحو فينا وروما؛ قد أصبحت ألد أعدائها بل وصارت حربة أوروبا الموجهة نحو “القسطنطينية”!

أما العالم العربي، فبقي مخلصاً للميراث الإسلامي بما فيه العثماني، واستطاع منذ سقوط الخلافة من تحقيق مستوى من الاستقرار والتحضر يمكن الاستبشار به إلى حد ما_ بغض النظر عن أسباب ذلك وعوامله_، وشهدت أروقته الفكرية عصفاً وتجاذبات كبيرة أنتجت أجيالاً قطعت أشواطاً لا بأس بها في ميادين المدنية مقارنة بالقرون السابقة، بل وأكثر من ذلك، فقد أثبتت شعوبه مؤخراً بأنها قادرة على أن تثور على أنظمة الاستبداد والاستعمار الغربي، وطالبت شرائح عريضة منها بالعودة إلى عصر الدولة الواحدة بالرغم من كل التهميش الذي عانت منه إبانها.

واليوم تقف تركيا أمام خطر مواجهة أوروبا وروسيا وإيران من جديد، ولكن هذه المرة بدون حربتها البلقانية، فتوجب عليها اليوم التمسك بدرعها العربي وأن تساهم في تشكله وتصلبه قبل أن يجهز عليه الغرب ويفتته من جديد، وإلا فإنها ستجد نفسها مجردةً ضعيفة وحيدة بلا أوراق دفاع أو هجوم أمام المتربصين وما أكثرهم.

إن أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه الأتراك اليوم هو تسليم إدارة دفة بلادهم لقيادة لا تعرف التاريخ أو ساقطة في فخ أوهام النظام العالمي الجديد، بينما سيكون أكبر خطأ ترتكبه القيادة التركية هو أن ترتمي في أي حضن بعيداً عن عمقها الحضاري، وستندم كثيراً وقت لا ينفع الندم إن هي فرطت في الدفاع عن تماسك العالم العربي، أو ما تبقى منه، مهما كلف ذلك، بينما على العرب إدراك الفرصة واغتنامها قبل فوات الأوان، فالغرب والشرق لن يقر له جفن حتى يفتت المنطقة بالكامل ويعيدها إلى ما قبل التاريخ!